الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
فإن الناس في هذه الحياة في غفلة، وأملهم فيها عريض، ولا بد من إلجام النفس بتذكيرها بمصيرها، لتعمر الآخرة بالدنيا، ويغتنم الحاضر للمستقبل وقد جعل الله اليقين باليوم الآخر من أركان الإيمان وسيأتي اليوم الذي يفنى فيه الخلق مصداقاً لقوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [سورة الرحمن: 26]، ثم يأتي يوم يعيد الله فيه العباد ويبعثهم من قبورهم، وأول من يبعث وتنشق عنه الأرض نبينا محمد ويحشر العباد حفاة عراة غرلاً غير مختونين {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ} [الأنبياء: 104]، ويكسى العباد، وأول من يكسى إبراهيم عليه السلام ويكسى الصالحون ثياباً كريمة، والطالحون يسربلون القطران، ويحشر الخلق على أرض محشر غير هذه الأرض والسماوات قالت عائشة رضي الله عنه: "فأين يكون الناس يا رسول الله؟"، فقال: «على الصراط» [رواه مسلم]. وفي لفظ له: «هم في الظلمة دون الجسر» [رواه مسلم]، «أرض بيضاء، عفراء، كقرصة النقي» [رواه مسلم]، ولا يلاقي العباد يوم مثله، وصفه الله بالثقل والعسر يشيب منه شعر الوليد، فذلك يوم عسير، تذهل المرضعة عن رضيعها، والحامل تسقط حملها، وحال الناس كالسكارى، وما هم بسكارى، والأبصار شاخصة لا تطرق، والقلوب لدى الحناجر كاظمين، ساكنين لا يتكلمون ويفر الإنسان من أحب الناس إليه، من أمه، وأبيه، وأخيه، وزوجته، وأولاده، ويود العاصي أن يدفع بأعز الناس لديه في النار؛ لينجو هو {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ (13) وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ} [المعارج: 11-14]، والأرض تزلزل وتدّك دكّة واحدة، وتمد مد الأديم، وتبقى صعيداً واحداً لا اعوجاج فيها، ويقبضها الله ويمسكها باصبع، والجبال تسير، وتنشق وتتحول إلى كثيب مهيل وعهن منفوش، وتزال الجبال من مواضعها وتسوى الأرض لا ارتفاع فيها ولا انخفاض، والبحار تفجّر وتسجر، وتشتعل ناراً، والسماء تنشق وتمور وتضطرب فتصبح ضعيفة واهية، وتأخذ السماء في التلون {فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاء فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} [الرحمن: 37]، قال الحسن: "أي تكون أبواباً"، وتكشط السماء فلا ستر ولا خفاء، ويطويها ربنا بيمينه كطي السجل للكتاب، ويمسكها على إصبع، والشمس تكور وتجمع ويذهب ضوؤها، والقمر يخسف {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (
وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} [القيامة: 7-9]، والنجوم الزواهر تتكدر وينفرط عقدها، فتتناثر وتظلم الأرض بخمود سراجها وزوال أنوارها، والعشار تعطل، والوحوش تحشر، والأبصار خاشعة، ويموج الخلق بعضهم إلى بعض، والملائكة آخذة مصافها محدقة بالخلائق، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «اللهم إني أعوذ بك من ضيق المقام يوم القيامة» [رواه النسائي وصححه الألباني] في هذا اليوم تعلم كل نفس ما أحضرت، يوم يقف الإنسان نادماً بعد فوات الأوان، ويؤخذ الخافي في الصدور أخذاً شديداً، يبعثر ما فيها بعثرة فما خفي فيها يظهر، وما أسر فيها يعلن، صمت مهيب لا يتخلله حديث ولا يقطعه اعتذار {هَذَا يَوْمُ لَا يَنطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [سورة المرسلات: 36،35].
حال الصالحين والمؤمنين:
وجوه هناك مبيضة مسفرة مستبشرة ضاحكة ناضرة، ووجوه أخرى مسوّدة باسرة عليها غبرة مرهقة بالقترة، المتقون يحشرون إلى ربهم وفداً، والمجرمون يساقون يومئذ زرقاً، والشمس تدنو من رؤوس الخلائق حتى لا يكون بينها وبينهم إلا قدر ميل، ولا ظل لأحد إلا ظل عرش الرحمن، فمن بين مستظل يظل العرش وبين مضحو بحر الشمس، والأمم تزدحم وتتدافع، فتختلف الأقدام وتنقطع الأعناق، ويجتمع حر الشمس فيفيض العرق إلى سبعين ذراعاً في الأرض ويستنقع على وجه الأرض ثم على الأبدان على سرائبهم، منهم من يصل إلى الكعبين، ومنهم من يلحمه إلجاماً، فيطبق الغم، وتضيق النفس، وتجثو الأمم من الهول على الركب، وترى كل أمة جاثية، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون» [رواه البخاري].
حال العصاة والكافرين:
ويندم العصاة ويتحسرون على تفريطهم في الطاعة، ولشدة حسرتهم يعضون على أيديهم يقول عز وجل: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً} [الفرقان: 27]، ويمقت العاصي نفسه وأحبابه وأخلاءه، وتنقل كل محبة لم تقم على أساس من الدين إلى عداء، ويخاصم المرء أعضاءه، والمتكبرون يحشرون أمثال الذر، يطؤهم الناس بأقدامهم، احتقاراً لهم، والمسبل إزاره لا يكلمه الله في ذلك اليوم، ولا ينظر إليه، ولا يزكيه وله عذاب أليم، وتوضع لكل غادر يوم القيامة راية عند مؤخرته ويقال: هذه غدرة فلان بن فلان، ومن أخذ من الأرض شيئاً بغير حقه خسف به يوم القيامة إلى سبع أراضين، ويتضاعف يوم القيامة ظلم الدنيا «الظلم ظلمات يوم القيامة» [رواه البخاري ومسلم]، والحقوق لا تضيع، بل يقتص حق المظلوم من الظالم حتى يقاد فيما بين البهائم، وشر الناس يوم القيامة ذو الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه، ومن نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسّر على معسر يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، والعادلون على منابر من نور عن يمين الرحمن، ويبعث كل عبد على ما مات عليه فمن مات محرماً يبعث ملبياً، ومن قتل في سبيل الله جاء لونه لون الدم والريح ريح المسك، والمؤذنون أطول الناس أعناقاً يوم القيامة، ولا يسمع مدى صوته شيء إلا شهد له يوم القيامة، ومن شاب شيبة في الإسلام كانت له نوراً يوم القيامة، وكل امرئ في ظل صدقته حتى يفصل بين الناس. والصراط دحض مزلة فناج عليه، ومخدوش ومكدوس في النار، والميزان بالقسط لا اختلال فيه، الحساب فيه بمثاقيل الذر {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة: 8،7]، الحمد لله تملؤوه، وسبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم ثقيلتان فيه، يقول عليه الصلاة والسلام: «أثقل شيء في الميزان الخلق الحسن» [صححه الألباني]، والصحف المطوية تنشر، كم من بلية نسيتها وكم من سيئة أخفيتها تظهر، والكتاب يقرأ، والجوارح تنطق، والملائكة تشهد، والله شهيد على جميع الأعمال، يقول تعالى: {وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} [يونس: 61]، وبعد أن يفرغ الله من الفصل بين البهائم يشرع في الفصل بين العباد، وأول الأمم يقضى بينها هذه الأمة، كما أنهم أول من يجوز على الصراط، وأول من يدخل الجنة يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة» [رواه البخاري ومسلم]، وفي رواية: «المقضي لهم قبل الخلائق» [رواه مسلم]، ويكرم الله عبده محمداً في الموقف العظيم بإعطائه حوضاً واسع الأرجاء مسيرته شهر، وماؤه أبيض من اللبن، وأحلى من العسل، وأطيب من المسك، ترى عليه أباريق الذهب والفضة كعدد نجوم السماء، من شرب منه شربةً لم يظمأ بعدها أبداً، ويرد عليه أقوام من أمته ثم يحال بينهم فيقول عله الصلاة والسلام: «إنهم مني»، فيقال: "إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك" فيقول: «سحقاً سحقاً لمن بدل بعدي».
النجاة من هذا اليوم:
إن النجاة من تلك الأهوال إنما تُنال برحمة الله، ثم بالعمل الصالح، والإنسان المقصر في ذلك اليوم نادم لا محالة، لا تنفع فيه المعذرة ولا يرتجى فيه إلا المغفرة، طالت بك الأيام أم قصرت فمصيرك إما جنة وإما نار.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُور} [فاطر: 5].
المفلس يوم القيامة:
المفلس يوم القيامة من يأتي بصلاة، وصيام، وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُعطى هذا من حسناته وهذا من سيئاته، فإن حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم يقذف في النار.
يقول صالح المري دخلت المقابر نصف النهار فنظرت إلى القبور كأنهم قوم صموت، فقلت سبحان الله من يحييكم وينشركم من بعد طول البلى، فهتف بي هاتف من بعض تلك الحفر: يا صالح: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ} [الروم: 25]، قال: فخررت مغشياً عليّ.
يقول الحسن البصري: "يومان وليلتان لم يسمع الخلائق مثلهن قط، ليلة تبيت مع أهل القبور ولم تبت قبلها مثلها، وليلة صبيحتها تسفر عن يوم القيامة، ويوم يأتيك البشير من الله إما بالجنة أو بالنار، ويوم تعطى كتابك إما بيمينك وإما بشمالك".
فاستعدوا عباد الله لما أمامكم، واعملوا لهذا اليوم الطويل، جعلنا الله وإياكم من أهل الجنة، وغفر لنا ولوالدينا لجميع المسلمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.