قلــــب واحــــد
وقف المعلّمُ، أمامَ تلاميذه، ينظر إليهم، قبل أنْ يبدأَ قصته، فوجد عيونهم معلَّقةً به، وآذانهم مصغيةً إليه..
قال المعلِّمُ:
كان بضعةُ أطفالٍِ، يلعبون بطائراتهم الورقية، فوق رَبْوةٍ خضراء، في جنوب لبنان.. كانوا يتراكضون فرحين، وطائراتهم الملوّنة، ترقص فوق رؤوسهم، مثلَ فراشاتِ الربيع، تارةً تجذبهم وترتفع، وتارة يجذبونها ويهتفون:
نحن العصافير
نجري ونطير
نحن العصافير
ظلّ الأطفالُ، يركضون ويمرحون، والفرحُ يركض معهم، حيثما يركضون، ويقف معهم، حيثما يقفون.. فرحَتِ الربوةُ لفرحهم، وفتحَتْ لهم صدرها الأخضر. وفرح الهواءُ لفرحهم، فطفق يلعب معهم يجاذبهم طائراتهم، ويداعبُ لهم وجناتهم. وفرحتِ السماءُ لفرحهم، فأشرق وجهها، صفاءً ونقاء.
ومرَّتْ بهم، عجوزٌ كبيرة، فرفعَتْ ظهرها وبصرها، ترنو إليهم مسرورة، وتقول:
-ما أجملَ الأطفالَ، وهم يفرحون!
وصمتَ المعلّمُ قليلاً، ينظر إلى تلاميذه، فوجدهم كلّهم فرحين، كأنّ لهم قلباً واحداً!
وتابع المعلّمُ قصته، فقال:
وفجأة..
سمع الأطفالُ، هديراً مخيفاً، يمرُّ فوقهم، ويبتلعُ ضحكاتهم..
جمدوا في أماكنهم، ورفعوا رؤوسهم إلى السماء، فشاهدوا طائراتٍ كبيرةً، ليسَتْ كطائراتهم، و.. صاحتِ العجوز محذَّرةً:
-انبطحوا يا أبنائي على الأرض.
انبطح الأطفالُ مذعورين، وقد طارتْ قلوبهم، وطارت أفراحهم..
أرهفوا آذانهم منصتين.. سمعوا انفجاراتٍ مرعبة، ترجُّ الأرضَ، وتصمُّ الأسماع.. وعادتِ الطائراتُ الإسرائيلية، وهي تفاخرُ بوحشيّتها، بعد أنْ قصفَتْ قريتهم، وألقَتْ عليها، حقدها وحممها..
وقفتِ العجوزُ محزونة، وقالت:
-انهضوا يا أبنائي، وأسرعوا إلى بيوتكم.
نهض الأطفالُ، وهم يتلفَّتون.. شاهدوا سحباً سوداً، تتصاعدُ من قريتهم الوادعة، وتهاجمُ سماءهم الزرقاء، فتلوِّثُ نقاءها، وتعكِّرُ صفاءها.. وصمتَ المعلّمُ قليلاً، ينظر إلى تلاميذه، فوجدهم كلّهم محزونين، كأنَّ لهم قلباً واحداً!
وتابع المعلّم قصته، فقال:
وهرع الأطفال إلى قريتهم، فسمعوا صراخ نساء، وبكاء أطفال، وأبصروا بيوتاً مهدومة، وأمّهاتٍ والهاتٍ، وشاهدوا رجالاً غضاباً، ينقلون قتلى، ويسعفون جرحى، و.. التهب الأطفال غضباً، فنظر بعضهم إلى بعض، وأخذوا يمزّقون طائراتهم، ويهتفون غاضبين:
لا نريدُ أن نكون عصافير
نريد أن نكون نسوراً
لا نريد طائراتٍ ورقيّة
نريد طائرات حقيقيّة
وانطلق الأطفالُ، نسوراً صغاراً، يساعدون المنكوبين، ورؤوسهم مرفوعة، وأقدامهم ثابتة..
قال أحد التلاميذ:
-ما أعظم هؤلاء الأطفال الأبطال!
وقال المعلّم:
-وما أعظمكم أنتم يا أبنائي!
-لماذا؟!
-لأنكم كثيرون. وقلبكم واحد .
قال التلاميذ مدهوشين:
-كيف؟!
قال المعلّم:
-عند الفرح.. فرحتم جميعاً
وعند الحزن.. حزنتم جميعاً.
وعند الغضب.. غضبتم جميعاً.
و..
أطرق المعلّم قليلاً، ثم رفع رأسه، وقال:
-ما أجمل أنْ يكون العربُ مثلكم، يجمعُ كَثْرتَهم، قلبٌ واحدٌ كبير!